ما المقصود من عبارة (حاضري المسجد الحرام)؟، سؤال أجابته دار الإفتاء المصرية من خلال الموقع الرسمي، ردا على سائل يقول: أعيش في مكة المكرمة، وسافرتُ إلى زيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بداية شهر ذي القعدة، ثم رجعتُ فأحرمتُ من آبار عليٍّ بالعمرة، علمًا بأني قد نويتُ أن أحج هذا العام، فهل ينطبق عليَّ وصف حاضري المسجد الحرام الوارد في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَن لَمْ يَكُن أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾؟
ما المقصود من عبارة (حاضري المسجد الحرام)؟
وقالت الإفتاء إن أهل مكة هم “حاضرو المسجد الحرام” باتفاق، ومن ثَمَّ فلا حرج شرعًا في الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من ميقات أهل المدينة ثم إرادة الحجَّ في نفس العام والإحرام به من مكة، ولا يجب هدي ولا دم في هذه الحالة، وذلك بخلاف مَن يبعد مسكنه عن مكة المكرمة مسافة القصر أو الآفاقي، فإنه إذا تمتع بالعمرة إلى الحج يجب عليه الهدي أو الصوم إن لم يجده.
واستعرضت الإفتاء اختلاف الفقهاء في المراد بـ”حاضري المسجد الحرام”، حيث الحكم في هذه المسألة متوقف على بيان المراد من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 196].
وقد اختلف العلماء في المراد بـ”حاضري المسجد الحرام” إلَّا أنه من جملة أقوالهم يتضح وجود قدر مشترك وقع عليه الاتفاق في معنى “حاضري المسجد الحرام” وهم: أهل الحرم، وقد حكى الإمام الطبري الإجماع على هذا في تفسيره “جامع البيان” (3/ 110، ط. مؤسسة الرسالة)؛ فقال: [اختلف أهل التأويل فيمَن عُنِيَ بقوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم مَعنِيُّونَ به، وأنه لا متعة لهم] اهـ.
وما زاد على هذا القدر وقع الاختلاف فيه على أقوال:
فذهب الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج إلى أنهم أهل مكة فقط.
قال الإمام أبو بكر الجصاص في “أحكام القرآن” (1/ 350، ط. دار الكتب العلمية) في بيان “حاضري المسجد الحرام”: [قال الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج: هم أهل مكة] اهـ.
وذهب عطاء ومكحول والحنفية إلى أن ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هم: أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة.
أما قَوْلَا عطاء ومكحول فقد ذكرهما الإمام الطبري في “تفسيره” (3/ 111، ط. مؤسسة الرسالة).
فعن عطاء قال: “مَن كان أهله مِن دون المواقيت؛ فهو كأهل مكة لا يتمتع”.
وعن مكحول في معنى قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾، قال: “من كان دون المواقيت” ذكرهما الطبري في “تفسيره”.
وأما قول الأحناف؛ فكما ورد في عبارات المتقدمين والمتأخرين منهم:
قال شمس الأئمة السرخسي في “المبسوط” (4/ 169، ط. دار المعرفة): [وليس للرجل من أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة أن يقرن أو أن يتمتع، وهم في ذلك بمنزلة أهل مكة، أما المكي: فلأنه ليس له أن يتمتع بالنص؛ لأن الله تعالى قال في ذلك: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 196]، واختلف العلماء رحمهم الله تعالى في ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾.. وقلنا: أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة من حاضري المسجد الحرام بمنزلة أهل مكة؛ بدليل: أنه يجوز لهم دخول مكة بغير إحرام فلا يكون لهم أن يتمتعوا] اهـ.
وقال علاء الدين الحصكفي في “الدر المختار” (2/ 593، ط. دار الفكر، ومعه “حاشية ابن عابدين”) في بيان التمتع: [(والمكي ومن في حكمه يفرد فقط)] اهـ.
قال العلامة ابن عابدين مُحَشِّيًا: [(قوله ومَن في حكمه) أي: من أهل داخل المواقيت] اهـ.
وذهب المالكية إلى أنهم: أهل مكة وذي طُوَى، وهو: موضع بين الطريق التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة والطريق الأخرى التي جهة الزاهر، وتُسمَّى عند أهل مكة “بين الحُجُونَيْن”؛ كما في “شرح مختصر خليل” للعلَّامة الخرشي (2/ 311، ط. دار الفكر).
قال الإمام القرافي في “الذخيرة” (3/ 292، ط. دار الغرب الإسلامي): [وقد تقدم أن حاضري المسجد الحرام لا دم عليهم، واختُلف فيهم، فقال مالك: هم أهل مكة وطُوى طرف منها] اهـ.
وقال الإمام أبو عبد الله المواق في “التاج والإكليل” (4/ 78، ط. دار الكتب العلمية): [مِن حاضري المسجد الحرام، وهو عند مالك: أهل مكة وأهل ذي طُوى؛ لأنها من مكة] اهـ.
وذهب الشافعية في الأصح عندهم إلى أن “حاضري المسجد الحرام” هم: أهل الحرم ومن قاربهم دون مسافة القصر، وهو المذهب عند الحنابلة.
قال الإمام النووي الشافعي في “المجموع” (7/ 175، ط. دار الفكر): [مِن حاضري المسجد الحرام وهم: مَن مسكنه دون مسافة القصر مِن الحرم…، والصحيح: الأول، وبه قطع الجمهور] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في “الإنصاف” (3/ 440، ط. دار إحياء التراث العربي): [وقيل: أول مسافة القصر: من آخر الحرم، وهو المذهب. وذكره ابن هبيرة: قول أحمد، وجزم به في “الهداية”، و”المستوعب”، و”الرعايتين”، و”الحاويين”، وقدمه في “الفروع”] اهـ.
وذهب الشافعية في وجهٍ والحنابلة في رواية إلى أنهم: أهل مكة -وهم: أعمُّ من أهل الحرم- ومَن قاربهم دون مسافة القصر.
قال الإمام النووي الشافعي في “المجموع” (7/ 175): [مِن حاضري المسجد الحرام وهم.. وقيل: مَن بينه وبين نفس مكة دون مسافة القصر، حكاه المتولي والبغوي وآخرون من الخراسانيين] اهـ.
وقال موفق الدين ابن قدامة الحنبلي في “المقنع” (ص: 112، ط. مكتبة السوادي): [مِن حاضري المسجد الحرام وهم: أهل مكة، ومَن كان منها دون مسافة القصر] اهـ.
وقال علاء الدين المرداوي الحنبلي في “الإنصاف” (3/ 440): [فسر المصنف ﴿حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: أنهم أهل مكة، ومَن كان منها دون مسافة القصر، فظاهره: أن ابتداء مسافة القصر من نفس مكة، وهو اختيار بعض الأصحاب، وهو ظاهر ما جزم به في “الشرح”، وصاحب “التلخيص”، وقاله الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام ابن مُنَجَّى في “شرحه”] اهـ.
والمختار للفتوى هو ما ذهب إليه الشافعية في الأصح عندهم، وما عليه المذهب عند الحنابلة من أن “حاضري المسجد الحرام” هم: أهل الحرم ومَن كان منه دون مسافة القصر؛ لأن الحاضر في اللغة هو القريب ولا يكون قريبًا إلا في مسافة لا تُقصر فيها الصلاة، كما في “المجموع” للإمام النووي الشافعي (7/ 174)، و”شرح منتهى الإرادات” للعلَّامة البهوتي الحنبلي (1/ 531، ط عالم الكتب)، وقد تقرر في قواعد الشرع الحنيف: “مَا قَارَبَ الشَّيْءَ أَخَذَ حُكْمَهُ”؛ كما في “البحر الرائق” لزين الدين ابن نجيم (5/ 115، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و”الذخيرة” لشهاب الدين القرافي (5/ 366).
كما أن كلَّ موضع ذُكر فيه الحرم في كتاب الله تعالى أريد به الحرم كله لا المسجد نفسه، إلَّا في قوله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة: 144] أراد به الكعبة المشرفة.
ومنه: يلحق مَن كان على مسافة دون القصر من الحرم به، فيكون من حاضريه؛ قال الله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ [الأعراف: 163]؛ كما قال الإمام الماوردي في “الحاوي” (4/ 62-63، ط. دار الكتب العلمية).
وشددت بناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن أهل مكة هم “حاضرو المسجد الحرام” باتفاق، ومن ثَمَّ فلا حرج عليك شرعًا في إحرامك بالعمرة في أشهر الحج من ميقات أهل المدينة ثم إرادتك الحجَّ في عامك هذا وإحرامك به من مكة، ولا يجب عليك هدي ولا دم في هذه الحالة، وذلك بخلاف غيرك ممَن يبعد مسكنه عن مكة المكرمة مسافة القصر أو الآفاقي، فإنه إذا تمتع بالعمرة إلى الحج يجب عليه الهدي أو الصوم إن لم يجده؛ كما سبق بيانه.